فصل: الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 7‏)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الجن

بسم اللّه الرحمن الرحيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 7‏)

‏{‏ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ‏.‏ يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ‏.‏ وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ‏.‏ وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ‏.‏ وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ‏.‏ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ‏.‏ وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ‏}‏

يقول تعالى آمراً رسوله صلى اللّه عليه وسلم، أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن، فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد‏}‏ أي إلى السداد والنجاح ‏{‏فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه تعالى جد ربنا‏}‏ قال ابن عباس ‏{‏جد ربنا‏}‏ آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه، وقال مجاهد‏:‏ جلال ربنا، وقال قتادة‏:‏ تعالى جلاله وعظمته وأمره، وقال السدي‏:‏ تعالى أمر ربنا، وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏تعالى جد ربنا‏}‏ أي تعالى ربنا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما اتخذ صاحبة ولا ولداً‏}‏ أي تعالى عن اتخاذ الصاحبة و الأولاد، أي قالت الجن‏:‏ تنزه الرب جلَّ جلاله عن اتخاذ الصاحبة والولد، ثم قالوا‏:‏ ‏{‏وإنه كان يقول سفيهنا على اللّه شططاً‏}‏، قال مجاهد ‏{‏سفيهنا‏}‏ يعنون إبليس، ‏{‏شططاً‏}‏ أي جوراً، وقال ابن زيد‏:‏ أي ظلماً كبيراً، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم‏:‏ سفيهنا اسم جنس لكل من زعم أن للّه صاحبة أو ولداً، ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏وإنه كان يقول سفيهنا‏}‏ أي قبل إسلامه، ‏{‏على اللّه شططاً‏}‏ أي باطلاً وزوراً، ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏وإنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على اللّه كذباً‏}‏ أي ما حسبنا أن الإنس والجن، يتمالأون على الكذب على اللّه تعالى، في نسبة الصاحبة والولد إليه، فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على اللّه في ذلك‏.‏وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً‏}‏، كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان، أن يصيبهم بشيء يسوؤهم، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم ‏{‏زادوهم رهقاً‏}‏ أي خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم، كما قال قتادة ‏{‏فزادوهم رهقاً‏}‏ أي إثماً، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة، وقال الثوري ‏{‏فزادوهم رهقاً‏}‏ أي ازدادت الجن عليهم جرأة، وقال السدي‏:‏ كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول‏:‏ أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه ومالي أو ولدي أو ماشيتي، قال قتادة‏:‏ فإذا عاذ بهم من دون اللّه رهقتهم الجن الأذى عند ذلك، وعن عكرمة قال‏:‏ كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد، فكان الإنس إذا نزلوا وادياً هرب الجن، فيقول سيد القوم‏:‏ نعوذ بسيد أهل هذا الوادي، فقال الجن‏:‏ نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم، فدنوا من الإنس، فأصابوهم بالخبل والجنون، فذلك قول اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً‏}‏ أي إثماً ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة‏"‏، وقال أبو العالية ‏{‏رهقاً‏}‏ أي خوفاً، وقال ابن عباس‏:‏ أي إثماً، وقال مجاهد‏:‏ زاد الكفار طغياناً‏.‏ روى ابن أبي حاتم، عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال‏:‏ خرجت مع أبي من المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتهى صف الليل جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي، فقال‏:‏ يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه، يقول‏:‏ يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، وأنزل اللّه تعالى على رسوله بمكة‏:‏ ‏{‏وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه أحداً‏}‏ أي لن يبعث اللّه بعد هذه المدة رسولاً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 8 ‏:‏ 10‏)‏

‏{‏ وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ‏.‏ وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ‏.‏ وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ‏}‏

يخبر تعالى عن الجن حين بعث اللّه رسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرساً شديداً، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها لئلا يسترقون شيئاً من القرآن، وهذا من لطف اللًه تعالى بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قال الجن‏:‏ ‏{‏وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً‏}‏ أي من يروم أن يسترق السمع اليوم، يجد له شهاباً مرصداً له، لا يتخطاه ولا يتعداه بل يمحقه ويهلكه، ‏{‏وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً‏}‏ أي ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء، لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً، وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى اللّه عزَّ وجلَّ، وقد ورد في الصحيح‏:‏ ‏(‏والشر ليس إليك‏)‏ وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فوجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء، فآمن من آمن منهم، وتمرد في طغيانه من بقي، كما تقدم حديث ابن عباس عند قوله في سورة الأحقاف‏:‏ ‏{‏وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن‏}‏ الآية‏.‏ ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر، وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها، هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له، وظنوا أن ذلك لخراب العالم، فأتوا إبليس فحدَّثوه بالذي كان من أمرهم فقال‏:‏ ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها، فأتوه، فشم فقال‏:‏ صاحبكم بمكة فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا فوجدوا نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائماً يصلي في المسجد الحرام، يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصاً على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه، ثم أسلموا فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏هذه بعض رواية ذكرها السدي‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏11 ‏:‏ 17‏)‏

‏{‏ وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ‏.‏ وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا ‏.‏ وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ‏.‏ وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ‏.‏ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ‏.‏ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ‏.‏ لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن الجن ‏{‏وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك‏}‏ أي غير ذلك، ‏{‏كنا طرائق قدداً‏}‏ أي طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة، قال ابن عباس ومجاهد ‏{‏كنا طرائق قدداً‏}‏ أي منا المؤمن ومنا الكافر، وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال، سمعت بعض الجن وأنا في منزل لي بالليل ينشد‏:‏

قلوب براها الحب حتى تعلقت * مذاهبها في كل غرب وشارق‏.‏

تهيم بحب اللّه واللّه ربها * معلقة باللّه دون الخلائق‏.

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنا ظننا أن لن نعجز اللّه في الأرض ولن نعجزه هرباً‏}‏ أي نعلم أن قدرة اللّه حاكمة علينا، وأنا لانعجزه ولو أمعنا في الهرب، فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا، ‏{‏وأنا لّما سمعنا الهدى آمنا به‏}‏ يفتخرون بذلك وهو مفخر لهم وشرف رفيع، وصفة حسنة، وقولهم‏:‏ ‏{‏فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً‏}‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ فلا يخاف أن ينقص من حسناته أو يحمل عليه غير سيئاته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يخاف ظلماً ولا هضماً‏}‏، ‏{‏وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون‏}‏ أي منا المسلم ومنا القاسط، وهو الجائر عن الحق الناكب عنه بخلاف المقسط، فإنه العادل، ‏{‏فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً‏}‏ أي طلبوا لأنفسهم النجاة، ‏{‏وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً‏}‏ أي وقوداً تسعر بهم، ‏{‏وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقاً * لنفتنهم فيه‏}‏ اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين‏:‏ أحدهما وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام، واستمروا عليها ‏{‏لأسقيناهم ماء غدقاً‏}‏ أي كثيراً، والمراد بذلك سعة الرزق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض‏}‏، وعلى هذا يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏لنفتنهم فيه‏}‏ أي لنختبرهم من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وأن لو استقاموا على الطريقة‏}‏ يعني بالاستقامة الطاعة، وقال مجاهد‏:‏ يعني الإسلام وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والسدي وابن المسيب ومحمد بن كعب القرظي‏"‏‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وأن لو استقاموا على الطريقة‏}‏ يقول‏:‏ لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين، والقول الثاني ‏{‏وأن لو استقاموا على الطريقة‏}‏ الضلال ‏{‏لأسقيناهم ماء غدقاً‏}‏ أي لأوسعنا عليهم الرزق استدراجاً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء‏}‏ وهذا من قول أبي مجلز، وحكاه البغوي عن الربيع، وزيد بن أسلم، والكلبي، وله اتجاه ويتأيد بقوله ‏{‏لنفتنهم فيه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً‏}‏ أي عذاباً مشقاً موجعاً مؤلماً، قال ابن عباس ومجاهد ‏{‏عذاباً صعداً‏}‏ أي مشقة لا راحة معها، وعن ابن عباس‏:‏ جبل في جهنم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏18 ‏:‏ 24‏)‏

‏{‏ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ‏.‏ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ‏.‏ قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ‏.‏ قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ‏.‏ قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ‏.‏ إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ‏.‏ حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا ‏}‏

قال قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحداً‏}‏ قال‏:‏ كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا باللّه، فأمر اللّه نبيّه صلى اللّه عليه وسلم أن يوحّدوه وحده، وقال ابن عباس‏:‏ لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام، ومسجد إيليا بيت المقدس ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏"‏، وروى ابن جرير، عن سعيد بن جبير قال، قالت الجن لنبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناؤون‏؟‏ أي بعيدون عنك، وكيف نشهد الصلاة ونحن ناؤون عنك‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏وأن المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحداً‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير‏"‏‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ نزلت في المساجد كلها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنه لما قام عبد اللّه يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً‏}‏ قال ابن عباس يقول‏:‏ لما سمعوا النبي صلى اللّه عليه وسلم يتلو القرآن، كادوا يركبونه من الحرص لمّا سمعوه يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه‏:‏ ‏{‏قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن‏}‏ يستمعون القرآن، وقال الحسن‏:‏ لما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ لا إله إلا اللّه ويدعو الناس إلى ربهم كادت العرب تلبد عليه جميعاً، وقال قتادة‏:‏ تلبّدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى اللّه إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه هذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وهو اختيار ابن جرير وهو الأظهر لقوله بعده‏:‏ ‏{‏قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً‏}‏ أي قال لهم الرسول لما آذوه وخالفوه وكذبوه، وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على عداوته ‏{‏إنما أدعوا ربي‏}‏ أي إنما أعبد ربي وحده لا شريك له وأستجير به وأتوكل عليه ‏{‏ولا أشرك به أحداً‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً‏}‏ أي إنما أنا عبد من عباد اللّه، ليس إليّ من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كله إلى اللّه عزَّ وجلَّ، ثم أخبر عن نفسه أيضاً أنه لا يجيره من اللّه أحد، أي لو عصيته، فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي ممن عذابه ‏{‏ولن أجد من دونه ملتحداً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا ملجأ، وقال قتادة‏:‏ أي لا نصير ولا ملجأ، وفي رواية‏:‏ لا ولي ولا مؤئل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا بلاغاً من اللّه ورسالاته‏}‏ مستثنى من قوله‏:‏ ‏{‏قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً‏}‏ ويحتمل أن يمون استثناء من قوله‏:‏ ‏{‏لن يجيرني من اللّه أحد‏}‏ أي لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها عليّ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعص اللّه ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً‏}‏ أي أنا رسول اللّه أبلغكم رسالة اللّه فمن يعصِ بعد ذلك فله جزاء ‏{‏نار جهنم خالدين فيها أبداً‏}‏ أي لا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا رأى المشركون ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً‏}‏ أي حتى إذا رأى هؤلاء المشركون ما يوعدون يوم القيامة، فسيعلمون يومئذ ‏{‏من أضعف ناصراً وأقل عدداً‏}‏ هم أم المؤمنون الموحدون للّه تعالى، أي بل المشركين لا ناصر لهم بالكلية، وهم أقل عدداً من جنود اللّه عزَّ وجلَّ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏25 ‏:‏ 28‏)‏

‏{‏ قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ‏.‏ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ‏.‏ إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ‏.‏ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ‏}‏

يقول تعالى آمراً رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يقول للناس‏:‏ إنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد ‏{‏قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً‏}‏ أي مدة طويلة، ‏{‏عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول‏}‏ هذه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏}‏ وهذا يعم الرسول الملكي والبشري، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً‏}‏ أي يخصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر اللّه، ويساوقونه على ما معه من وحي اللّه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً‏}‏، وقد اختلف المفسرون في الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏ليعلم‏}‏ إلى من يعود‏؟‏ فقيل‏:‏ إنه عائد إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، روى ابن جرير، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً‏}‏ قال‏:‏ أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل ‏{‏ليعلم‏}‏ محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً‏}‏ ‏"‏حكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير‏"‏، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏ليعلم أن قد ابلغوا رسالات ربهم‏}‏ قال‏:‏ ليعلم نبي اللّه أن الرسل قد بلغت عن اللّه، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها ‏"‏رواه عبد الرزاق عن معمر بن قتادة، واختاره ابن جرير‏"‏، وقيل المراد ليعلم أهل الشرك أن قد ابلغوا رسالات ربهم، قال مجاهد‏:‏ ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم، وفي هذا نظر، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى اللّه عزَّ وجلَّ ‏"‏حكاه ابن الجوزي في زاد المسير‏"‏، ويكون المعنى في ذلك أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه‏}‏، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلمن اللّه الذين آمنوا وليعلمن المنافقين‏}‏ إلى أمثال ذلك، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعاً لا محالة، ولهذا قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً‏}‏‏.‏